طه عبد الرحمن يستعرض أركان النظرية الائتمانية للحوار

hespress

طه عبد الرحمن يستعرض أركان النظرية الائتمانية للحوار

 

taha abderrahman redحدث علمي واحتفالي احتضنته مدينة الجديدة يومي الثلاثاء والأربعاء، 3 و4 ماي 2016، ويتعلق الأمر بمؤتمر دولي نُظم في موضوع: « إشكال العلاقة بين الحوار والأخلاق في الفكر المعاصر: مشروع الفيلسوف طه عبد الرحمن نموذجاً »، ونظمه مختبر الترجمة والتواصل والآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة شعيب الدكالي بالجديدة) بالتعاون مع مختبر الترجمة وتكامل المعارف بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة القاضي عياض بمراكش) وفريق البحث في التعليم والترجمة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة ابن زهر بأكادير).

تميز اللقاء بمحاضرة افتتاحية ألقاها الفيلسوف طه عبد الرحمن صباح الثلاثاء، وجاءت تحت عنوان: « الممارسة الحوارية بين المسؤولية والأمانة »، وعلى غرار ما جرى مع مضامين المحاضرة الافتتاحية لأشغال المؤتمر الثاني الذي نظم السنة الماضية بمراكش، حيث توقف طه عبد الرحمن بالعرض والنقد مع بعض اجتهادات فلاسفة علم النفس (جاك لاكان على الخصوص)، توقف في محاضرة المؤتمر الثالث بالعرض والنقد مع اجتهادات أحد رموز فلسفة الأخلاق في المجال التداولي الغربي، من خلال عرض ونقد اجتهاداته في موضوع الحوار، والحديث هنا عن الفيلسوف الفرنسي (من أصل ليتواني) إيمانويل ليفيناس.
« مواجهة » ليفيناس و »مواثقة » طه
افتتح طه عبد الرحمن محاضرته بالتأكيد على أن الممارسة الحوارية ليست مجرد صورة من صور الكلام، وإنما هي الأصل في وجوده، وقد خصّ الدخول في هذه الممارسة باسم مشتق من نفس المادة اللغوية، وهو المساءلة، باعتبارها الحوار الذي تتحدد فيه مسؤولية المحاور، مستعبداً التوقف عند الدلالة السياسية للمفهوم، والذي يواجه فيه المسؤول أسئلة الممثلين للشعب، ومفضلاً في المقابل، التوقف عند الحوار الديني الذي تلقى فيه الإنسان سؤال الإله قبل أن يتلقى سؤال الإنسان، تأسيساً على مصدرين اثنين: أحدهما المصدر التوراتي (من سفر التكوين، 4)، والآخر المصدر القرآني (الأعراف، 172 و173)، ومن هنا أسباب التوقف عند أعمال ليفيناس، لأنه كان متشبعاً بعقيدة دينية ومتضلعاً في التراث التلمودي، بل وضع مؤلفات مرجعية، وخَصَّ طه بالذكر كتابه الشهير « الوجود الكلي والآخر اللامتناهي »، وأيضاً كتابه الآخر « مغايرة الوجود ».
هذا عن المصدر التلمودي في سؤال الحوار وهو الذي انتهى بليفيناس للحديث عن حوار « المواجهة »، مقابل حوار « المواثقة » عند طه عبد الرحمن في الشق الخاص بالمصدر القرآني، بتعبير آخر، الإحالة على المصدر التوراتي تُخوّل لطه أن يُسمي المسائلة بـ »المواجهة »، وحَدُّها أنها عبارة عن المساءلة التي يتساءل فيها الإنسان عن أداء واجبه، أما الإحالة على المصدر القرآني، فتصب في الحديث عن « المواثقة »، وهي عبارة عن المُسائلة التي يُسأل فيها الإنسان عن الميثاق الذي أُخِذ منه.
والحال أن التعامل مع الأصل الديني للمساءلة يختلف باختلاف هاتين الصورتين، أي « المواجهة » و »المواثقة »، حيث إن التعامل في سياق المواجهة يتأسّس على التنكر لمقتضيات هذا الأصل الديني، وهذا اصطلح عليه طه عبد الرحمن بالتغييب، بينما يقوم التعامل مع هذا الأصل الديني في سياق المواثقة على تذكر الأصل الديني، وهو ما اصطلح عليه بالتشهيد. (ومعلوم أن المحاضر اشتغل على مفهوم « التغييب » و »التشهيد » في كتابه « روح الدين » [2012])، وبالنتيجة، خلُصَ طه إلى أن « المواجهة » حوار يُغيب المسؤولية، بينما « المواثقة » حوار يُشهد المسؤولية.
بعد هذه التوطئة، سوف تتفرع المحاضرة على محوريين اثنين، جاء الأول بعنوان « حوار المواجهة وأخلاق المسؤولية »، وكان عبارة عن تعريف وتفصيل في أعمال إيمانويل ليفيناس، مع الرهان على تمرير ترجمة توصيلية لمفاهيمه، وفي مقدمتها تعريفه للحوار (من باب التذكير، يُفرق طه في كتابه « فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة » [1995]، بين الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية والترجمة التأصيلية).
وهكذا، انطلق طه عبد الرحمن من تعريف ليفيناس للحوار قصد مناقشته، وجاء التعريف كالتالي: « إنه الخطاب الذي يدور بين الناس، وهو وجهاً لوجه »، متسائلين فيما بينهم ومتبادلين الأقوال والاعتراضات والأسئلة والأجوبة، ويُعرف ليفيناس المواجهة بكونها تربط بين طرفين متقابلين تقابلاً، لا اتحاد معه ولا اختزال ولا تنسيق، وهذا الطرفان هما الأنا والآخر.
وأضاف طه أنه بناءً على هذا التصور للمواجهة الذي يجعل منها حواراً حافظاً بين الأنا والآخر، وضع ليفيناس نظريته في الأخلاق، متأثراً بواقعة المحرقة النازية، حيث سيخلص ليفيناس إلى أن الأصل في الأخلاق هو الآخر [أو « الغيرية » بتعبير طه]، وليس طلب الكمال أو طلب الانسجام، أو مجاهدة الأهواء كما هو الشأن في نظريات الأخلاق السابقة، والنتيجة، أن علم الأخلاق عند ليفيناس ينزل منزلة الفلسفة الأولى، بما تطلب من المحاضر المزيد من شرح ونقد أطروحة ليفيناس، ولهذا السبب طلب طه من الحضور التركيز في المتابعة، من كثرة المفاهيم والتعاليق، خاصة أن المسألة تطلبت الاشتغال على ترجمة مفاهيم من مجال تداولي لآخر، واتضحت مرة أخرى أهمية تمكنه من اللغات الأجنبية في معرض الترحال مع المفاهيم، حتى إنه عرج [مرة أخرى] على اللاتينية في سياق تدقيق مفهوم « الجوابية » مثلاً.
يصعب تلخيص مضامين محاضرة ألقاها رائد الدرس المنطقي في مجالنا التداولي، وأحد رموز الكتابة العلمية الاستدلالية، وبالتالي، نتوقف هنا عند بعض الإشارات التي تضمنتها.
في تفاصيل أخلاق المسؤولية عند ليفيناس، أشار طه عبد الرحمن إلى أن مسؤولية المواجهة لدى ليفيناس تدل على المسؤولية التي يُطالب فيها السائل المسؤولية بإجابتين: إحداهما، أن يجيب عن سؤاله؛ والثانية، أن يجيب عن السائل؛ ليُطلق على هذه المسؤولية باسم « مسؤولية الجواب »، أو مفهوم « الجوابية »، وهنا يتوقف طه عند مجموعة من المفاهيم المرتبطة باجتهادات ليفيناس، وما يهمنا أكثر في هذا العرض، بسط بعض معالم أشكال التغييب عند ليفيناس، كما سَطرها المحاضر، على أساس أن التغييب ــ حسب التعريف الطاهائي ــ معناه مُمارسة تنكّرية تقوم في إضفاء الكمالات الإلهية التي لا تُبصرها العيون، ولا تحيط بها العقول على ذات الإنسان، رفعاً لرتبته إلى رتبة الآلهة (وهو مراتب تختلف باختلاف هذه الكمالات الإلهية؛ وعلى صعيد آخر، أياً كانت درجته، لا يعني أن رفعه لذات لإنسان إلى رتبة الألوهية يُلغي مجمل صفاته البشرية، بل قد يحفظ بعض هذه الصفات، مستفيداً منها في مزيد المحو للحدود بين خاصية الألوهية وخاصية الإنسانية).
كما اعتبر طه عبد الرحمن أن نظرية المواجهة عند ليفيناس اتخذت لوناً متميزاً من ألوان الممارسة التغييبية في نطاق الحوار، وفي مقدمتها تغييب العلاقة التواجهية، مشيراً في هذا السياق، إلى أن النعوت التي نسبها ليفيناس إلى العلاقة التواجهية بين الأنا والآخر مأخوذة من النعوت التي توصف بها العلاقة الخطابية بين الإنسان والإله؛ حيث جعل ليفيناس من الآخر كائناً مُبايناً للأنا ومتعالياً عليه، وجعل هذه المباينة مطلقةً، وهذا التعالي لامتناهياً، والحال أن « المباينة المطلقة » و »التعالي غير المتناهي »، كمالان من الكمالات التي يختص بها الإله سبحانه، ومن هنا أسباب مؤاخذة طه على ليفيناس بممارسة التغييب، معتبراً أن هذا الأخير، أتى من التغييب ما ينزل الرتبة الثانية، وهي نقل أسماء الصفات الإلهية إلى الآخر، وهي المباينة والتعالي واللاتناهي والإطلاق.
بل أضفى ليفيناس على الأنا النعوت التي يُنعَت بها الإنسان في علاقته بربه، ناقلاً إلى التعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان ما يجب في حق تعامل الإنسان مع خالقه، ومن هذه النعوت، ورد طه التكليف والامتثال والمقهورية والمملوكية، وحينئذ، يُضيف طه، لا نستغرب أن يصف ليفيناس الإله بـ »الآخر »، ويُزاوج بين حديثه عن الآخر وحديثه عن الإله، تارة مسوّياً بينهما في الصفات، حتى كأنهما ذات واحدة، وتارة مقارناً بينهما إلى حد أن يدّعي فضل الآخر على الإله، بل إن ليفيناس لجأ إلى الجانب الثاني من التغييب، وهو إضافة بعض الأوصاف الخاصة بالإنسان إلى الإله؛ من قبيل أنه نسَبَ إلى الإله « الافتقار » و »الضعف » و »الغربة »، حتى يَرُدَّ العلاقة بالإله إلى العلاقة بالإنسان الآخر.
توقف طه أيضاً عند معالم التغييب الذي مارسه ليفيناس على مستوى اللغة، وشمل ثلاث مراتب: الذات والصفات والأفعال، إذ جعل وجهَ الآخر المتكلم في رتبة ذات الإله المتكلمة؛ وجعل تكليمَه للأنا في رتبة تكليم الإله للإنسان؛ وجعل اتصالَه، وهو ذات متعالية ولامتناهية، بالأنا في رتبة اتصال الإله المتعالي واللامتناهي بالإنسان؛ وأخيراً، جعل أمرَه للأنا، إلزاماً وامتثالاً، في رتبة أوامر الإله للإنسان، إلزاماً وامتثالاً.
أركان النظرية الائتمانية للحوار
بعد هذا العرض والنقد لمفهوم « المواجهة » عند ليفيناس، آن الأوان للتوقف عند عناصر النظرية الائتمانية للحوار، كما سَطرها الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن، والمؤسّسة على أربعة أركان: الميثاق، الأمانة، الشهادة والمُخالقة، وتستند هذه الأركان جميعاً إلى مُسَلمة أولى، وهي أن المُواثقة تختص ببُعدين متلازمين ومتداخلين، وهما الامتداد والارتفاع: الامتداد لأن حوار المتواثقين يتعلق بشؤون هذا العالم، مادية كانت أو معنوية، بحيث يُصبح الامتداد في العالم هو مجال إسراء المتواثقين؛ وأما الارتفاع، فلأن سيْر هذا الحوار يتطلب التوجيه التقويم تطُلُّبَ الإسراء للدلالة والهداية، ولما كانت المواثقة حوار امتداد وارتفاع في نفس الآن، أي يُزاوج بين النظر الملكوتي وبين النظري المُلكي، لزم أن يتأسس، في كل واحد من أركانها، البعدُ الامتدادي على البعد الارتفاعي (أو البعد المُلكي على البعد الملكوتي).
نبدأ بركن الميثاق، حيث اعتبر طه عبد الرحمن أن العلاقة الحوارية بين المتواثقين مؤسَّسَة بداية على الميثاق الأول الذي أُخِذَ منه في حوار مشهود، يوم أشهد الخالق سبحانه بني آدم، مخاطباً لهم كما في الآية « ألست بربكم، قالوا بلى.. ». [الأعراف، 172 ـ 173]، وسَطّر أهم خصائصها في نقاط ثلاث، وهي أن هذه العلاقة الحوارية تتسع لكل الرتب؛ كما أنها تتسع لكل الكائنات؛ وأخيراً، تشهد هذه العلاقة تبادل الثقة بين المتواثقين؛ (في الخاصية الميثاقية الثانية مثلاً، وبما أن المغرب مقبل هذه السنة على احتضان حدث كوني حول قمة الأرض، شاءت الأقدار أن يتوقف طه عند بعض الأمثلة التي تشرح مقتضى هذه الخاصية الميثاقية الثانية، مفادها أنه يمكن أن يُواثق أحد الطرفين الآخر على « حفظ البيئة » أو « حفظ الأرض » أو « حفظ المناخ » أو « حفظ الطبيعية »، باعتباره مُمثلاً للذرية أو البيئة أو الأرض أو المناخ أو الطبيعة التي هي المُواثق الأصلي).
فيما يتعلق بركن الأمانة، فقد كان أساسه الملكوتي الثاني مُسطراً في آية المسؤولية [« إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض »، الأحزاب، 72]، وتتحدّد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بالخصائص الائتمانية الثلاث الآتية: أنها علاقة اختيارية من الجانبين، مهما اختلافا في الرتبة؛ أنها علاقة إبداعية غير امتلاكية؛ أنها علاقة روحية بقدر ما هي عقلية. [ثمة لطيفة دقيقة في مضامين الخاصية الائتمانية الثانية، مفادها أنه لمّا كانت ذمة المُواثق مشغولة بواجب حفظ الأمانة الذي وُكل إليه، فقد أضحى يعتبر أن الأصل في الأشياء، أيا كانت، هو الإيداع، وليس الامتلاك].
أما ركن الشهادة، فيستند على أساس ملكوتي هو الشاهدية الإلهية، وبناءً عليها، تتحدد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بالخصائص الشهادية الأربع التالية: أنها علاقة بصرية بقدر ما هي علاقة قولية؛ أنها علاقة بصيرة بقدر ما هي علاقة بصَر؛ أنها علاقة شهادة بقدر ما هي علاقة مشاهدة؛ وأخيراً، أنها علاقة يدخل فيها نظر الشاهد الأعلى. [في الخاصية الشهادية الأولى مثلاً، يخلُص طه إلى أن تجاوُب البصر بوصف « المشاهدة » يكون سابقاً على تجاوب اللسان بوصف « المشافهة »].
نأتي أخيراً للركن الرابع، وهو ركن المخالقة سالف الذكر، وأساسه الملكوتي هو الأسماء الحسنى، وتتحدّد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بالخصائص التخالقية الأربع التالية: أنها تعاون على التخلق؛ أنها تعاون على المسؤولية؛ أنها تعاون على التجمل؛ وأخيراً، أنها تعاون على الرحمة. (خلُص طه هنا إلى أن الفضاء الحواري الذي يتأسس على الشاهدية الإلهية هو فضاء رحموتي بامتياز).
هذا غيض من فيض، ونبذة مختصرة، أو قل مختزلة، حول محاضرة تطرقت للفوارق الجوهرية بين النظرية الحوارية لأخلاق المسؤولية والنظرية الحوارية لأخلاق الأمانة، وإن كانت كلاهما تصل بين العالمين: المُلكي والملكوتي، بشكل أو بآخر، إلا أن الأولى تسلك طريق التغييب، مسندة الكمالات الإلهية إلى الإنسان كأنه من عالم الغيب؛ بينما تسلك الثانية طريق التشهيد، مخرجة المعاني الروحية المبثوثة في الفطرة إلى عالم الشهادة.